مقالات

بين الشاعر والناثر صحراء ومدينة

 

بقلم: رَوايا خليل آل ربيعة
باحثة عراقية في الفنون والآداب

المقدمـــة:
يعتبر الشعر جوهرة الفنون الأدبية والإنسانية القولية ، بل وأكثرها قدما ، ظهر قبل العصر الجاهلي في زمن لم يستطع المؤرخون تحديده بدقة ، أو بالأحرى اختلفت الآراء حول ظهوره ، ولكن ما اتفقوا عليه هو التغيير الذي خضع له تدريجيا منذ بدء العصر الأموي إلى يومنا هذا ، حيث انتقل من هيكل القبيلة البسيط إلى هيكل الدولة وصولا إلى رأس السلطة ، وذلك من خلال استيعاب ميراث الامبراطوريات القديمة بأساليبها وأعرافها ولياقتها ، و التي بدورها أحلت شاعر البلاط محل شاعر القبيلة ليكون أكثر هيمنة بكلمته وصوته حتى لو كان في حقيقته مجرد هامش منحدر بالنسبة للدولة ، وحتى لو كان شاعر القبيلة أصدق قولا وعقلا وحكمة.
تجسد هذا الانتقال إلى آفاق المجتمعات المدنية بتعددها الجغرافي والبشري والاقتصادي والصناعي والثقافي ، والتي غيرت بطبيعتها أدوات انتاج الشعر بأصوات فكرية مختلفة واتجاهات ثقافية بلغاتها ومعتقداتها التي تخدم مصالحها وأهدافها.
أطلق القدماء تعريفا عن الشعر “بأنه كلام موزون مقفى” أي الكلام المقيد بالوزن والقافية ، خاضعا في ملامحه الفنية لقواعد معينة اكتشفها الخليل بن أحمد الفراهيدي بما يطلق عليه “علم العروض” الذي يحدد أوزان الشعر العربي وما يعتريه من الزحافات والعلل ، وعبر هذا العلم – الذي إستحدثه الخليل بن أحمد – تم للشعر المقفى صفته وحُفظ مع الزمان ، فلم يمسسه تبديل أو تغيير ، وقطع الشعر المقفى رحلة زمنية طويلة احتفظ بها بقوام ثابت لا يتغير ، وذلك بفضل عوامل عديدة أبرزها ماتتمتع به من مقومات فنية غاية في الدقة والإحكام ، توارثها الأجيال جيل بعد جيل إلى أن ظهرت بوادر التجديد والتطور وبرزت على إثرها الأشكال الشعرية الحديثة التي باتت تنافسه ، من شعر حر ، وموشحات ، والشعر النثري …. إلخ.
هذا الأخير يعتبر كذلك فن من الفنون الأدبية الحديثة التي باتت تحتل مساحة كبيرة في النتاج الشعري العالمي عامة وفي المشهد الشعري العربي المعاصر خاصة ، حيث تميز بخروجه عن نظام الشعر المقفى القديم ، واعتماده على إيقاع داخلي وصور شعرية مبتكرة غالبا . وكعادة النقاد والثائرين ضد المستحدث والحديث من الشعر طرحت إشكاليات سابقا ولا زالت تطرح حول العلاقة القائمة بين كل من فني أدب الشعر المقفى المعروف بأصالته ، والشعرالنثري المستجد الذي نادى به المثقفون عالميا وعربيا. أما عن أهم جوانب الإتفاق والإختلاف بينهما:

العـــرض:
يقول أبو سليمان المنطقي: “الكلام ينبعث في أول مبادئه إما من عفو البديهة ، وإما من كد الرواية ، ففضيلة عفو البديهة أنه يكون أصفى ، وفضيلة كد الرواية أنه يكون أشفى ، وعيب عفو البديهة أن تكون صورة العقل فيه أقل ، وعيب كد الرواية أن تكون صورة الحس فيه أقل”.
ومن هذا نجد مضمون كلام أبي سليمان يدور حول العلاقة المميزة لكل من الشعر المقفى والشعر النثري ، ومما لاشك فيه أن الحديث عن هذه الثنائية سيقودنا مباشرة إلى استدعاء مفهوم المفاضلة كمقاربة نقدية تسمح بكشف تجليات هذه الإشكالية ، وطبيعة الدراسة التي سنتناولها تحتم علينا الوقوف عند حفريات كل من المصطلحين ، وتوضيح خصائص كل منهما ليكتسي كلامنا نوعا من الشرعية والمنطقية.
ماهيــة الشــعر المنثــور :
يرتبط الشعر النثري بتسميات متعددة من بينها :الشعر المنثور ، والنثر الشعري ، والنثيرة ، والقصيدة النثرية …إلخ ، وهي تسميات مختلفة لنمط من الكتابة سميت شعرا لدى بعض النقاد ، وذهب البعض إلى إعتبارها نصا إبداعيا ونظما لا يعتمد على وزن أو قافية ، ومن أبرز رواده وشعرائه أمين ريحاني ، جبرا إبراهيم جبرا ، وتوفيق الصايغ ، وأدونيس ومحمد المغوط ….. وغيرهم.
وقد ثارت مجموعة من النقاد و المحافظين ضد رواد هذا الإتجاه من الشعر ، وذلك لتمرد رواد الشعر المنثور بشكل كلي أو شبه كلي على قوانين الشعر العربي القديم ، والذي لم يأتي بالأفضل في نظرهم مقارنة مع الشعر المقفى الذي يتميز بشكله المتناسق وقافيته التي تضفي على الشعر رونقا وجمالا ، ولذلك كان علينا توضيح أهم الجوانب الإيجابية لهذا الإتجاه الشعري.
مفاضــلة الشــعر النثــري عــلى الشــعر المقفــى :
يرى أنصار الشعر النثري أن الشاعرالحقيقي لا يقف عند شرطي الوزن والقافية ، بل ينطلق من معطيات تعبيرية وفنية تخضع للموهبة نابعة من الذات ، كما اعتبرت الشاعرة السورية رشا عمران “أن وصف الشعر النثري خاليا من الإيقاع والوزن وهو أمر يعود إلى الأصوليين من الشعراء والنقاد ، هؤلاء الذين يرفضون التجديد ، كما أشارت إلى أن قصيدة النثر تعتبر مرحلة جديدة وشكلا من أشكال الشعر الحديث الذي يصور تغير الزمان و الأحداث الواقعية الراهنة .
كما يعتبر أنصار هذا التيار أنه فن يصلح لجميع مناحي الحياة ، وأحسن مرآة للواقع من ناحية طرحه للأحداث دون تكلف أو قيود ، على عكس الشعر المقفى الذي يفرض على الشاعر التزامات قد تفقد من محتواه الحقيقي في بحثه المتواصل لوصف موضوعه على الوزن والقافية وما إلى ذلك من تكلف. كما يخاطب شاعر النثر عقل الإنسان من خلال لغة مباشرة واضحة صريحة لامجال للبس فيها ، وهدفه إيصال فكرة أو وصف موضوع معين للقارئ في حين أن شاعر المقفى يخاطب عواطف وأحاسيس القارئ في لغة لا يفهمها عامة الناس ويتقنها فقط من تمكن من دراسة نظام القصيدة العمودية ، وعادة يكون موجها لفئة مثقفة .
يذكر القلقشندي في الفصل الثالث من كتاب صبح الأعشى مبرزا أفضلية الشعر النثري على الشعر المقفى: “أعلم أن الشعر وإن كان له فضيلة تخصه ومزية لايشاركه فيها غيره من حيث تفرده بإعتدال أقسامه ، وتوازن أجزائه ، وتساوي قوافي قصائده مما لا يوجد في غيره من سائر أنواع الكلام…. فإن النثر أرفع منه درجة وأعلى رتبة وأشرف مقاما ، وأحسن نظاما ، إذ الشعر إضافة إلى الوزن والقافية يحتاج الشاعر معها إلى زيادة الألفاظ ، والتقديم والتأخير ، وقصر الممدود ومد المقصور …. مما تلجأ إليه ضرورة الشعر…. والكلام المنثور لا يحتاج فيه إلى شيء من ذلك”. إذ يطلق شاعر النثر العنان لكلماته دون قيد فتبحر في الأفق مدوية بكل حرية .
يقول أمين الريحاني : “فإذا جٌعل للصيغ أوزان وقياسات تقيدها ، تتقيد معها الأفكار والعواطف ، فتجيئ غالبا وفيها نقص أو حشو أو تبذل أو تشويه أو إبهام ، وهذه بليتنا في تسعة أعشار الشعر المنظوم في هذه الأيام”. وعليه يمكننا القول أن الشعر المنثور قام على أساس نثري بإستخدام موسيقى الفكر التي تعتمد على التوازي والترادف والتقابل والتنظيم التصاعدي للأفكار، إلى جانب تكرار السطور والكلمات والأفكار في مجموعات متنوعة وذلك تقليدا للشعر الحر الذي يكتبه الإفرنج .
مفاضلــة الشــعر المقفــى عــلى الشــعر النثــري:
يرى أنصار ومؤيدو الشعر المقفى الأفضلية والتميز لهذا الشعر لالتزام الشاعر بالوزن والقافية في كتابة الشعر ، فالبحر والقافية والبيت الشعري تعد جميعها مكونات أساسية لا يمكن الإستغناء عنها ، لأنها تضفي جمالا خاصا على الشعر وتعزله عن شعر النثر وتميزه على المستحدث من المنثور ، ويرون أن شاعر النثر أقل شأنًا لخروجه عن المألوف ، فهم يعتبرون شعره مجرد كلام فني بأسلوب الكاتب .
شاعر المقفى يعتمد على الصور التشبيهية والحسية والأساليب البلاغية المنوعة ، في حين يعتمد شاعر النثر أساليب الحوار كالتحليل والوصف .
الشعر المقفى أفضل لأنه أسهل حفظا من الشعر المنثور ، فالشعر تحفظه الذاكرة لوقعه الجميل ، على عكس المنثور الخالي من الموسيقى الإيقاعية المؤثرة في نفس القارئ.
فيقول إبن نباتة كما ورد في كتاب الإمتاع والمؤانسة لابن حيان التوحيدي: “من فضل النظم أن الشواهد لا توجد إلا فيه والحجج لا تؤخذ إلا منه ، أعني أن العلماء والحكماء والفقهاء والنحويين واللغويين يقولون: “قال الشاعر” ، “وهذا كثيرا في الشعر” ، “والشعر قد أتى به” ، فعلى هذا الشاعر هو صاحب الحجة والشعر هو الحجة”.
وكما يقال: ماأحسن هذه الرسالة لو كان فيها بيت من الشعر ، ولايقال: ما أحسن هذا الشعر لوكان فيه شيء من النثر ، لأن صورة المنظوم محفوظة ، وصورة المنثور ضائعة .
كذلك ذكر الدكتور وليد القصاب في مجلة شباب مصر أن مصطلح “الشعر النثري” بحد ذاته يعد مصطلحا فاسدا لقيامه على الجمع بين نقيضين ( الشعر و النثر ) وهما لا يجتمعان في ثقافتنا العربية وحدها ، بل حتى في الثقافة الغربية ، فيقول توماس إليوت وهو من أكبر شعراء الحداثة في الغرب: “الشعر الحر تسميته خاطئة وذلك لأنه مامن شعر يمكن أن يكون حرا لدى من يريد أن يحقق فيه الإتقان” وأضاف إليوت “أن الحرية لن تكون هروبًا من الوزن في الشعر وإنما هي السيطرة عليه وإتقانه” .
التركيــب:
وفي هذا الجزء يمكننا إدراج نقاط الإلتقاء والإشتراك لكل من الشعر المقفى والشعر النثري:
كلاهما فنين لهما أهميتهما الأدبية والإجتماعية والفكرية ، حيث جاءا إستجابة للراهن العربي في كل زمان ومكان ، فيقول أحد الكتاب: “فإذا كان الأمر في هذه الحال على ماوصفنا ، فلشعر النثر فضيلته التي لاتنكر، وللنظم شرفه الذي لا يجحد ولا يستر ، لأن مناقب الشعر النثري في مقابلة النظم ، ومثالب النظم في مقابلة مثالب النثر ، والذي لابد منه فيه من السلامة والدقة وتجنب العويص ومايحتاج إلى التأويل والتخليص”.
وهناك من حاول التقريب بينهما كالناقد والكاتب السرقسطي الذي دافع عن الشعر بقوله: “وإن شابوه كذبا ومينا ، فقد أغضوا عليه عينا ، وإنما حمده أوفر من ذمه ، وشهده أكثر من سمه” ، ودافع عن النثر فقال: “هو الدر منظوما أومنثورا ، والحكمة متروكا أومأثورا ، ومايضر الدر إن لم تنظمه النواظم ، وقد فضلته الأكابر والأعاظم” ، وهنا إشارة إلى تجنب المفاضلة بينهما ، فكلهما فن قولي له جمالياته ومعاييره التي يتميز بها.
كما يذهب إبن المقفع الذي جعل البلاغة هي المشترك الفني بين الشعرين بأنهما وإن إختلفا شكلا فإن وصف البلاغة يشملهما ، إذن فالنقاش حول المفاضلة بين الشعر المقفى والشعر النثري – رغم أهميته – لا يقدم جديدا فيما يخص حقيقتهما ، فلكل نوع منهما طبيعته وخصائصه ووظائفه وحدوده القائم بها وعليها وإن كان في الحقيقة ليس هناك اختلاف بينهما إلا في الوزن والقافية.
وكما أشارأحمد البدوي لذلك في قوله: “إن النقاد لم يكونوا ينظرون إلى أن هناك فاصلا يحجز بينهما من حيث حقيقتهما الفنية ، وأنهما كلاهما يصاغ للتأثير في نفس سامعه وقارئه”.

أما بالنظر إلى شعراء هذه الأنواع الشعرية فقد رأى بعض النقاد أن الخلاف في تفضيل أحد الفنين على الآخر يسقط بتمكن أحدهما ، وذلك حسب براعة الشاعر في إتقانه لهذا الفن في شكل يستحسنه القارئ ويتقبله ، وعلى إثر هذا يقول أبوهلال العسكري في كتابه الصناعتين: “ومع ذلك فإن من أكمل الصفات صفات الخطيب والكاتب أن يكونا شاعرين ، كما أن أتم صفات الشاعر أن يكون خطيبا كاتبا”.

 

الخاتمــة:
بعد طرح موضوع الشعر المقفى والشعر النثري والمقارنة بينهما كان لزاما علينا إفراغ زبدة الموضوع كنقاط أساسية ، فمن المتفق عليه عربيا وعالميا أن الأدب قائم بدعائم جوهرية لا يمكننا الإستغناء عنها ، فالشعر كما سلف هو الكلام الموزون المقفى أم الشعر النثري فهو كلام مسترسل لا يتقيد بوزن ولا قافية لكنهما يصفان معا مواضيع واقعية ووجدانية ، ويتميز الشعر المقفى من ناحية البناء بإعتماد أبيات القصيدة العمودية ، بينما النثر يتحرر من هذه القيود فيكون الكلام فيه مسترسلا.
أما لغة الشعر فهي لغة أدبية تعتمد المجاز والتميز عن اللغة العادية في حين تتميز لغة النثر بكونها مباشرة، ومن ناحية المواضيع المطروحة فهما يلتقيان في وصف الواقع ونقده أحيانا مع التعبير عن أحاسيس الشاعر والكاتب، ولكن بالنسبة للأسبقية في الأدب فكانت الريادة للشعر، لكون الثقافة السائدة قبل الإسلام هي إعتماد السماع ، نظرا لأن الكتابة في ذلك الوقت لم تظهر بعد ، إذ أن الشعر المقفى والشعر النثري رغم إختلافهما من الجانب الشكلي وإختلاف ظروف نشأتهما إلا أنهما متشابهان ومتفقان في أنهما مرآة للواقع المعاش ، ولم تكن لتنشئ القوالب الشعرية الأكثر تحررا إلا لحاجة المجتمع لها نتيجة للظروف الإجتماعية والثقافية الراهنة ، لذلك.. علينا احترام وتشجيع طوائف الشعراء على ابتكار أنواع جديدة تواكب العصر ، وأن ندعو ا إلى التطوير المستمر لتثقيف المجتمعات العربية مع التأكيد على أهمية العودة للأصول في الشعر واستمرار الأخذ منها ، والاهتمام بها من حيث أنها الأثرى والأفضل من حيث قوة اللغة والعبارة ودراستها تعود بالنفع العظيم على تطور اللغة والأغراض الشعرية الحديثة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى